يوميات دير العاقول

'يوميات دير العاقول' هي مخطوطة عثر عليها أحدهم في مكتبة مهجورة في زاوية من مسجد قديم في المنطقة التي تحمل الاسم نفسه , و التي لقي فيها الشاعر أبو الطيب المتنبي مصرعه. بدت المخطوطة قديمة بالية و مجهولة النسب, و لعل من عثر عليها تبين له بعد جهد, أنها نسخة دقيقة نقلت قبل قرن من الزمان عن أصل دونه المتنبي.
سيرة أبو الطيب المتنبي


إعداد: محمد أحمد خليفة السويدي

إنّ لطبلي صوتاً (02:51)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

لما وليَ عليُّ بن عيسى الوزارة كان أبو عبد الله البريدي قد ضمن الخاصة، وكان أخوه أبو يوسف على سُرّق. فلمّا استعمل عليُّ بن عيسى العمّال، ورتّبهم في الأعمال، قال أبو عبد الله: تُقلِّد مثل هؤلاء على هذه الأعمال الجليلة، وتقتصر بي على ضمان الخاصة بالأهواز، وبأخي أبي يوسف على سُرّق ! لعن الله مَن يقنع بهذا منك، فإنّ لطبلي صوتاً سوف يُسْمع بعد أيّام. فلما بلغه اضطراب أمر عليّ بن عيسى أرسل أخاه أبا الحسين إلى بغداد وأمره أن يخطب له أعمال الأهواز وما يجري معها إذا تجددت وزارة لمن يأخذ الرّشى، فلمّا وزَر أبو عليّ بن مقلة بذل له عشرين ألف دينار على ذلك، فقلّد أبا عبد الله الأهواز جميعها، سوى السُّوس وجُنْدَيْسابور، وقلّد أخاه أبا الحسين الفراتيّة، وقلّد أخاهما أبا يوسف الخاصّة والأسافل، على أن يكون المال في ذمّة أبي أيّوب السمسار إلى أن يتصرّفوا في الأعمال. وكتب أبو عليّ بن مقلة إلى أبي عبد الله في القبض على ابن أبي السلاسل، فسار بنفسه فقبض عليه بتُستَر، وأخذ منه عشرة آلاف دينار ولم يوصلها.

----------------------------------------------------


سمل القاهر بالله (04:31)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

بلغني اليوم خبر سمل الخليفة في حاضرة الخلافة وأنا في الحبس. يقينا أن هذا ما جناه المعتصم، فلقد كان يتشبه بملوك الأعاجم ويمشي مشيهم، وبلغ غلمانه الأتراك بضعة عشر ألفاً. هاهم يبطشون بأحفاده اليوم. بلغني أنّ القاهر بالله قتل إسحاق بن إسماعيل النوبختي، وهو الذي أشار باستخلافه، فكان كالباحث عن حتفه بظلفه، وقتل أيضاً أبا السرايا بن حَمدان، وهو أصغر ولد أبيه؛ وسبب قتلهما أنّه أراد أن يشتري مغنّيتَيْن قبل أن يلي الخلافة، فزادا عليه في ثمنها، فحقد بذلك عليهما، فلمّا أراد قتلهما استدعاهما للمنادمة، فتزيّنا، وتطيّبا، وحضرا عنده فأمر بإلقائهما إلى بئر في الدار، وهو حاضر، فتضرّعا وبكيا، فلم يلتفت إليهما وألقاهما فيها وطمّها عليهما. وقيل إن ابن مقلة الوزير المختفي أوغر الجند عليه لأن ابن مقلة في اختفائه كان يوحشهم منه، ويقول لهم: إنه بنى لكم المطامير ليحبسكم وغير ذلك، فأجمعوا على الفتك به. وبلغ ذلك الوزير الحصيبيّ، فأرسل الحاجبَ سلامة وعيسى الطبيب ليعلماه بذلك، فواجداه نائماً قد شرب أكثر ليلته، فلم يقدرا على إعلامه بذلك. وزحف الحجريّة والساجيّة إلى الدار، ووكّل سيما بأبوابها مَن يحفظها، وبقي هو على باب العامّة، وهجموا إلى الدار من سائر الأبواب، فلمّا سمع القاهر الأصوات والجَلَبة استيقظ مخموراً، وطلب باباً يهرب منه، فقيل له إن الأبواب جميعها مشحونة بالرجال، فهرب إلى سطح حمّام، فلمّا دخل القوم لم يجدوه، فأخذوا الخدم وسألوهم عنه، فدلّهم عليه خادم صغير، فقصدوه، فرأوه وبيده السيف، فاجتهدوا به فلم ينزل لهم، فألانوا له القول، وقالوا: نحن عبيدك، وإنّما نريد أن نأخذ عليك العهود؛ فلم يقبل منهم وقال: مَن صعد إليّ قتلتُه! فأخذ بعضهم سهماً وقال: إن نزلت، وإلاّ وضعتُه في نحرك! فنزل حينئذ إليهم، فأخذوه وساروا به إلى الموضع الذي فيه طريف السبكريُّ، ففتحوه وأخرجوه منه وحبسوا القاهر مكانه، وهرب وزيره الخصيبيُّ وسلامة حاجبه.  وبايعوا أبا العباس محمد بن المقتدر ولقبوه  الراضي بالله ثم أرسلوا إلى القاهر الوزير والقضاة فقيل له ما تقول؟ قال: أنا أبو منصور محمد بن المعتضد، لي في أعناقكم بيعة، وفي أعناق الناس، ولست أبرئكم ولا أحلّكم منها، فأشار سيما  مقدّم الساجيّة على الراضي بسمله، فكحله بمسمار محمى. كان سبب خلع القاهر سوء سيرته وسفكه الدماء فامتنع من الخلع فسملوا عينيه حتى سالتا على خديه.
----------------------------------------------------


وجه لا يفترّ عن ابتسامة (03:42)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

لمّا اشتهر أمري، وشاع ذكري، تقوّل عليّ بأن لي أربا في ثورة أحدثها وبلدة أخلع أميرها، فألقى دعيّ يسمّى ابن عليّ الهاشمي، في قرية يقال لها كوكتين القبض عليّ وزجّني في السجن، وأمر النجّار بأن يجعل في رجليّ وعنقي قرمتين من خشب الصفصاف، فقلت في ذللك: 

زعم المقيم بكوتكين بأنه         من آل هاشم بن عبد مناف 

فأجبتُه مذ صرتَ من أبنائهم         صارت قيودُهم من الصَّفصاف 

وها قد مضى على أسري دونما سبب سنة ونيّف. ولقد بعثت الرسالة تلو الرسالة إلى أمير حمص علّها تشفع لي، ولكن لم يلن له قلب. قلت في بعضها: 

بيديّ أيّها الأمير الأريب         لا لشيءٍ إلاّ لأنّي غريب 

أو لأمٍّ لها إذا ذكرتني         دم قلبٍ بدمع عين سكوب 

إن أكن قبل أن رأيتك أخ         طأت فإنّي على يديك أتوب 

عائبٌ عابني لديك ومنه         خلقت في ذوي العيوب العيوب 

ولكن لقد أسمعت لو ناديت حيّا، وأرسلت له أخرى لا تخلو من طرفة وتعريض، جاء فيها: 

أمالك رقّي، ومن شأنه          هبات اللجين وعتق العبيد 

دعوتك عند انقطاع الرجاء          والموت منى كحبل الوريد 

دعوتك لما براني البلى          وأوهن رجليّ ثقل الحديد 

وقد كان مشيهما في النعال          فقد صار مشيهما في القيود 

وكنت من الناس في محفل          فها أنا في محفل من قرود 

ولكن وجههه البغيض لم يفتّر عن ابتسامة.
----------------------------------------------------


ضيف انطاكية (06:03)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

هكذا استهللتها: 


وَفاؤُكُما كَالرَبعِ أَشجاهُ طاسِمُه     بِأَن تُسعِدا وَالدَمعُ أَشفاهُ ساجِمُه  

وَما أَنا إِلّا عاشِقٌ كُلُّ عاشِقٍ     أَعَقُّ خَليَيهِ الصَفِيَّينِ لائِمُه 

وَقَد يَتَزَيّا بِالهَوى غَيرُ أَهلِهِ      وَيَستَصحِبُ الإِنسانُ مَن لا يُلائِمُه 

ما إن بلغت هذا البيت حتّى أطبق صمت، ثم همهمة، فمضيت قائلا: 

سَقاكِ وَحَيّانا بِكِ اللَهُ إِنَّما      عَلى العيسِ نورٌ وَالخُدورُ كَمائِمُه 

وَما حاجَةُ الأَظعانِ حَولَكِ في الدُجى إِلى قَمَرٍ ما واجِدٌ لَكِ عادِمُه  

إِذا ظَفِرَت مِنكِ العُيونُ بِنَظرَةٍ       أَثابَ بِها مُعييِ المَطِيِّ وَرازِمُه 

حَبيبٌ كَأَنَّ الحُسنَ كانَ يُحِبُّهُ     فَآثَرَهُ أَو جارَ في الحُسنِ قاسِمُه 

تَحولُ رِماحُ الخَطِّ دونَ سِبائِهِ      وَتُسبى لَهُ مِن كُلِّ حَيٍّ كَرائِمُه 

وَيُضحي غُبارُ الخَيلِ أَدنى سُتورِهِ     وَآخِرُها نَشرُ الكِباءِ المُلازِمُه 


صفّق سيف الدولة وصفّق الناس، عليّ الآن أن أنفث رقاي في آذانهم، فأردفت في وصف صاحب الخيمة والنقوش التي عليها : 


وَأَحسَنُ مِن ماءِ الشَبيبَةِ كُلِّهِ      حَيا بارِقٍ في فازَةٍ أَنا شائِمُه 

عَلَيها رِياضٌ لَم تَحُكها سَحابَةٌ      وَأَغصانُ دَوحٍ لَم تَغَنَّ حَمائِمُه  

وَفَوقَ حَواشي كُلِّ ثَوبٍ مُوَجَّهٍ     مِنَ الدُرِّ سِمطٌ لَم يُثَقِّبهُ ناظِمُه 

تَرى حَيَوانَ البَرِّ مُصطَلِحاً بِها      يُحارِبُ ضِدٌّ ضِدَّهُ وَيُسالِمُه 

إِذا ضَرَبَتهُ الريحُ ماجَ كَأَنَّهُ      تَجولُ مَذاكيهِ وَتَدأى ضَراغِمُه 

لَهُ عَسكَراً خَيلٍ وَطَيرٍ إِذا رَمى     بِها عَسكَراً لَم يَبقَ إِلّا جَماجِمُه  

أَجِلَّتُها مِن كُلِّ طاغٍ ثِيابُهُ      وَمَوطِئُها مِن كُلِّ باغٍ مَلاغِمُه  

فَقَد مَلَّ ضَوءُ الصُبحِ مِمّا تُغيرُهُ      وَمَلَّ سَوادُ اللَيلِ مِمّا تُزاحِمُه 

وَمَلَّ القَنا مِمّا تَدُقُّ صُدورَهُ       وَمَلَّ حَديدُ الهِندِ مِمّا تُلاطِمُه 

سَحابٌ مِنَ العِقبانِ يَزحَفُ تَحتَها      سَحابٌ إِذا اِستَسقَت سَقَتها صَوارِمُه  


عندما بلغت هذا البيت كان الأمير ومجلسه وكأن على رؤوسهم الطير، وما إن بلغت قولي: 


غَضِبتُ لَهُ لَمّا رَأَيتُ صِفاتِهِ     بِلا واصِفٍ وَالشِعرُ تَهذي طَماطِمُه  


ما أن بلغت هذا حتى ضحك الأمير وضجّ المجلس بالضحك. ها هو نجم سعدي يسطع ، فقد استحسن الأمير الضيف سيف الدولة الميمية، التي زلزلت لها الأرض والجبال، وقد استخفّ به الطرب، وأشرقت عيناه، وكأني به يقول هذا هو أمير الشعر الذي طالما طلبته، هذا الذي سيشغل بمآثري الدنيا . لقد استعادها مرارا، وطلب أن أرفعها إليه، وأمر النسّاخ بكتابتها بماء الذهب. ثمّ إنّه أدناني اليه، وهمس في أذني قائلا: ستصحبني في طريق عودتي إلى حلب، وستنشدني دون الشعراء جالسا ، ولن تقبّل الأرض بين يديّ مثلهم ، فأجبته: لبّيك أيّها الأمير، فطالما تقت إلى رؤية محيّاك والحياة في كنفك.
----------------------------------------------------


المهلبيّ يغري بي سفهاء بغداد (02:46)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

لمّا كنت قد ترفعت عن مدح الوزير المهلبي لابتذاله وسفاهته، ولذهابي بنفسي عن مدح غير الملوك، شقّ ذلك عليه، فأغرى بي سفهاء بغداد، حتى نالوا من عرضي، وتباروا في هجائي، وفيهم نكرات كابن الحجاج و ابن سكرة، و الحاتمي، فأقذعوا بكلام يبرأ منه الشعر، فقيل لي في ذلك، فقلت: إني فرغت من إجابتهم بقولي لمن هم أرفع طبقة منهم كقولي: 

 أرى المتشاعرين غروا بذمي        ومن ذا يحمد الداء العضالا   
 ومن يك ذا فم مر مريض         يجد مراً به الماء الزلالا   

وقولي : 

 أفي كل يوم تحت ضبني شويعر         ضعيف يقاويني قصير يطاول   
 لساني بنطقي صامت عنه عادل         وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل   
 وأتعب من ناداك من لا تجيبه         وأغيظ من عاداك من لا تشاكل   
 وما التيه طبي فيهم غير أنني         بغيض إليّ الجاهل المتعاقل   

وقولي : 

 وإذا أتتك مذّمتي من ناقص         فهي الشهادة لي بأني كامل   


----------------------------------------------------


أذن لكلّ قائل (00:51)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

اختفى المحسِّن ابن الوزير ابن الفرات هذه السنة عند حماته حزانة، وهي والدة الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات، وكانت تأخذه كلّ يوم إلى المقبرة، وتعود به إلى المنازل التي يثق بأهلها عشاء وهو في زيّ امرأة، فمضت يوماً إلى مقابر قريش، وأدركها الليل، فبعد عليها الطريق، فأشارت عليها امرأة معها أن تقصد امرأة صالحة تعرفها بالخير، تختفي عندها، فأخذت المحسن وقصدت تلك المرأة وقالت لها: معنا صبيّة بكر نريد بيتاً نكون فيه؛ فأمرتهم بالدخول إلى دارها، وسلّمت إليهم قبّة في الدار، فأدخلن المحسن إليها، وجلست النساء اللائي معه في صفّة بين يدي باب القبّة، فجاءت جارية سوداء، فرأت المحسن في القبّة، فعادت إلى مولاتها، فأخبرتها أنّ في الدار رجلاً، فجاءت صاحبتها، فلمّا رأته عرفته. وكان المحسن قد أخذ زوجها ليصادره، فلمّا رأى الناسَ في داره يُجلدون، ويشقَّون، ويعذَّبون، مات فجأةً، فلمّا رأت المرأة المحسن وعرفته ركبت في سفينة، وقصدت دار الخليفة وصاحت: معي نصيحة لأمير المؤمنين ! فأحضرها نصر الحاجب، فأخبرته بخبر المحسن، فانتهى ذلك إلى المقتدر، فأمر نازوك، صاحب الشُّرطة، أن يسير معها ويحضره، فأخذها معه إلى منزلها، ودخل المنزل، وأخذ المحسن وعاد به إلى المقتدر، فردّه إلى دار الوزير، فعُذب بأنواع العذاب ليجيب إلى مصادرة يبذلها، فلم يجبهم إلى دينار واحد، وقال: لا أجمع لكم بين نفسي ومالي؛ واشتدّ العذاب عليه بحيث امتنع عن الطعام فلمّا علم ذلك المقتدر أمر بحمله مع أبيه إلى دار الخلافة، فقال الوزير أبو القاسم لمؤنس، وهارون بن غريب الخال، ونصر الحاجب: إن يُنقل ابن الفرات إلى دار الخلافة بذل أمواله، وأطمع المقتدر في أموالنا، وضمننا منه، وتسلّمنا فأهلكنا؛ فوضعوا القوّاد والجند، حتّى قالوا للخليفة: إنّه لا بدّ من قتل ابن الفرات وولده، فإنّنا لا نأمن على أنفسنا ما داما في الحياة. وتردّدت الرسائل في ذلك، وأشار مؤنس، وهارون بن غريب، ونصر الحاجب بموافقتهم وإجابتهم إلى ما طلبوا، فأمر نازوك بقتلهما، فذبحهما كما يذبح الغنم. وكان ابن الفرات قد أصبح يوم الأحد صائماً، فأُتي بطعام فلم يأكله، فأُتي أيضاً بطعام ليُفطر عليه، فلم يفطر، وقال: رأيتُ أخي العبّاس في النوم يقول لي: أنت وولدك عندنا يوم الاثنين؛ ولا شكّ أنّنا نُقتل؛ فقُتل ابنه المحسن يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر، وحُمل رأسه إلى أبيه، فارتاع لذلك شديداً، ثمّ عُرض أبوه على السيف فقال: ليس إلاّ السيف، راجعوا في أمري، فإن عندي أموالاً جمّة، وجواهر كثيرة؛ فقيل له: جلّ الأمر عن ذلك ! وقُتل وكان عمره إحدى وسبعين سنة، وعمر ولده المحسن ثلاثاً وثلاثين سنة، فلمّا قُتلا حُمل رأساهما إلى المقتدر بالله، فأمر بتغريقهما. وقد كان أبو الحسن بن الفرات يقول إن المقتدر بالله يقتلني، فصحّ قوله، فمن ذلك أنّه عاد من عنده يوماً، وهو مُفكر كثير الهمّ، فقيل له في ذلك، فقال: كنتُ عند أمير المؤمنين فما خاطبتُه في شيء من الأشياء إلاّ قال لي نعم، فقلتُ له الشيء وضدّه، ففي كلّ ذلك يقول نعم؛ فقيل له: هذا لحُسن ظنّه بك، وثقته بما تقول، واعتماده على شفقتك؛ فقال: لا والله، ولكنه أذن لكلّ قائل، وما يؤمنيّ أن يقال له بقتل الوزير، فيقول نعم؛ والله إنّه قاتلي ! ولّما قُتل ركب هارون بن غريب مسرعاً إلى الوزير الخاقاني، وهنّأه بقتله، فأُغمي عليه، حتّى ظنّ هارون ومَن هناك أنّه قد مات، وصرخ أهله وأصحابه عليه، فلمّا أفاق من غشيته لم يفارقه هارون حتّى أخذ منه ألفَي دينار. وأمّا أولاده سوى المحسن فإنّ مؤنساً المظفَّر شفع في ابنَيْه عبدالله وأبي نصر، فأُطلقا له، فخلع عليهما، ووصلهما بعشرين ألف دينار، وصودر ابنه الحسن على عشرين ألف دينار، وأُطلق إلى منزله. وكان الوزير أبو الحسن بن الفرات كريماً، ذا رئاسة وكفاية في عمله، حسن السؤال والجواب، ولم يكن له سيّئة إلاّ ولده المحسن. كان ذلك أيّام دراستي في مدرسة للأشراف في الكوفة، ولم أبلغ العاشرة بعد.
----------------------------------------------------


أبو العشائر يترصّدني بالقتل (03:00)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

خرجت من مجلس  سيف الدولة بعد فراغي من الميميّة لا ألوي على شيء، أستطيع أن أقول أن الزمان سيتمثّلها طويلا، ولن يذكر بنو حمدان في مجلس إلا وكانت في صدر ذلك المجلس. كاد أبو العشائر  لولا حرمة سيف الدولة أن يفترسني، أنا أعلم الناس بخرقه وغلوائه وغيرته على ابن عمّه. ولقد أرسل في أثري غلمانه يترصدّونني بالقتل فأخطأتني سهامهم، ووكزت فرسي لائذا بالفرار . ها أنا أختبئ في بيت صديق لي في أطراف حلب وأدبّج رسالة إلى أبي العشائر سأنفذها إليه لعلهّا تشفع لي فيما اجترأت قوله. وقد ضمّنتها الأبيات التالية: 

ومنتسب عندي إلى من أحبّه      وللنبل حولي من يديه حفيف 

فهيّج من شوقي وما من مذلّة       حننت، ولكن الكريم ألوف 

وكلّ وداد لا يدوم على الأذى       دوام ودادي للحسين ضعيف 

فأن يكن الفعل الذي ساء واحدا       فأفعاله اللائى سررن ألوف 

ونفسي له، نفسي الفداء لنفسه       ولكنّ بعض المالكين عنيف 

فإن كان يبغي قتلها يك قاتلا  بكفيه، فالقتل الشريف شريف
----------------------------------------------------


أسر أبي فراس الحمداني (01:46)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

بلغني وأنا في مصر هذه السنة أسر الحمدانيّ أبي فراس و محمد بن ناصر الدولة، وأبو فراس هو ابن عم سيف الدولة و ناصر الدولة، وكان يسكن منبج ويتنقل في الشام. وهو تلميذ ابن خالويه البغيض يحسن قرض الشعر ويلمّ بأخبار من الأدب والتاريخ. وكان سيف الدولة ربّاه وقلّده منبج وحران وأعمالهما، فجاءه خلق من الروم، فخرج إليهم في سبعين نفساً من غلمانه وأصحابه، يقاتلهم، فنكأ فيهم، وقتل، وقدر أن الناس يلحقونه، فما اتبعوه، وحملت الروم بعددها عليه، فأسر وحمل الى القسطنطينية.

----------------------------------------------------


أَضعَف قِرن في أَذَلِّ مَكان (03:51)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

كان شبيب بن جرير العقيلي يلي معرّة النعمان من قبل سيف الدولة ثمّ تقلّد عمّان والبلقاء وما بينهما من البر والجبال، فعلت منزلته وزادت رتبته واشتدت شوكته. وغزا العرب في مشاتيها بالسماوة وغيرها، فاجتمعت إليه العرب وكثرت حوله. وطمع في الأسود، وأنف من طاعته، وسوّلت له نفسه أخذ دمشق والعصيان بها، فسار إليها في نحو عشرة آلاف. وقاتله أهلها وسلطانها. واستأمن إليه جمهور من الجند الذين كانوا بها. وغلّقت أبوابها واستعصموا بالحجارة والنشاب. فنزل بعض أصحابه على الثلاثة الأبواب التي تلي المصلّى يشغلهم بهم، ودار هو حتى دخل من الحميرييّن على القنوات حتى انتهى إلى باب الجابية، وحال بين الوالي وبين المدينة ليأخذها. وكان يقدم أصحابه، فزعموا أن امرأة دلّت على رأسه صخرة فخرّ صريعا. وانهزم أصحابه لما رأوا ذلك، فخالفوا إلى الموضع الذي دخلوا منه، فأرادوا الخروج منه، فقتل منهم أربعمائة فارس وبضعة عشر. وأخذ رأسه ووردت الكتب إلى مصر بخبره يوم الجمعة لخمس خلون من جمادي الآخرة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وطالبني الأسود بذكره، فقلت في ذلك: 

عَدُوُّكَ مَذمومٌ بِكُلِّ لِسانِ        وَلَو كانَ مِن أَعدائِكَ القَمَرانِ 

إلى أن بلغت:

وَقَد قَتَلَ الأَقرانَ حَتّى قَتَلتَهُ        بِأَضعَفِ قِرنٍ في أَذَلِّ مَكانِ 

فقال كافور: وهو يتكلم كلام الخدم: لا والله إلا بأشدّ قرن في أعزّ مكان، فروى الناس بأضعف قرن في أعزّ مكان. وما أردته أن موته كان بسبب حجر ألقته إمرأة، في موضع بعيد عن ساحة الحرب.
----------------------------------------------------


إذا اتسخت ثيابـي (04:52)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

سألني سيف الدولة ذات يوم كيف ألممت بمعنى البيتين: 

كئيباً تَوَقَّاني العواذُل في الهَـوَى       كما يَتَوقَّى رَيَّض الخيلِ حازمُهْ 

قفيِ تَغْرَمِ الأولَى من اللَّحظ مُهجتي      بثانية والمتلفُ الشيء غـارمُـهْ  

فأجبيه هذا من قول الخبز أرزي: 

إلـى كـم أذلّ وأسـتـعـطـفُ         وأنت تجـورُ ولا تُـنْـصـفُ  

أيا يوسَف الحسنِ صِلْ مُـدْنـفـاً       مدامِـعُـهُ لـم تَـزَلْ تَـذْرِفُ  

أعـيذكَ مِـنْ ظـالـم غـاشـم       سِوى الخلفِ في الوِعد لا يعرفُ  

ولي مهجةُ أنـت أتـلـفـتـهـاَ         عليكَ غـرامةُ مـا تُـتْـلـفُ  

فقال حفظه الله إن لقولك زيادة أكسبته حسنا. وأمّا الخبزأرزيّ فهو نصر بن أحمد بن نصر البصري الشاعر، كان أمّياً لا يتهجَّى ولا يكتب، وكان يخبز خُبزَ الأرُز بمِربَد البصرة في دكان، وكان ينشد أشعار الغَزَل والناس يزدحمون عليه ويعجبون به، وحضر إليه يوم عيدٍ ابن لَنكك وغيره، فقعدوا عنده وهو يخبز على طابقه فزاد في الوقود ودخّن عليهم، فنهض الجماعة، فقال الخبزأرزي لابن لنكك: متى أراك يا أبا الحسين؟ فقال: إذا اتسخت ثيابي، لأنه سوّدها بالدخان وكانت جُدداً في يوم عيدٍ، ثم إن ابن لنكك كتب إليه: 

لنصرٍ في فؤادي فَرطُ حُبٍ        أنِيف به على كل الصِّحابِ  

أتيناه فبخَّـرنـا بـخـوراً          من السَعَف المدخّن للثياب 

فقمتُ مبادراً وظننتُ أنـي       أرادَ بذاك طردي أو ذهابي 

فقال متى أراك أبا حسـينٍ       فقلتُ له إذا اتسخت ثيابـي 

فكتب إليه الجواب إملاءً: 

منحتُ أبا الحسينِ صميمَ ودي       فداعبني بألفاظ عذاب 

أتى وثيابُهُ كقـتـيرِ شَـيبٍ         فعُدنَ له كَرَيعانِ الشـبـاب 

وبُغضي للمشيبِ أعَدَّ عنـدي       سواداً لونه لون الخضـاب 

ظننتُ جُلوسَه عندي لِعُـرسٍ      فجدت له بتمسيك الـثـياب 

فقلتُ: متى أراك أبا حسـين       فجاوبَني إذا اتسخت ثيابـي 

فإن كان التقزّزُ فـيه خـيرٌ        فلِم يُكنى الوَصِيُّ أبا تـراب 

وتوفي الخبزأرزيّ سنة سبع عشرةَ وثلاثمائة.
----------------------------------------------------


هاتف من ابن العميد (07:23)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

في زيارتي لحاضرة الخلافة هذا العام، وصلني رسول من ابن العميد يدعوني إليه. ها هي فارس تريد سرقة شعري أيضا، أعلم أن مآل المجد إنمّا سيكون لهذه الدويلة الناشئة وأربابها. وأعلم أن ابن العميد هذا يريدني بوقا له. ولقد كان له حديث مع أبي نصر ابن نُباتة حين وفد إليه، حديث شاع في الأقطار، دلّ على نزقه، ولذلك فهو يخشى أن لا ألبّيه. فعندما ورد ابن نباته على أبي الفضل بن العميد وامتدحه بالقصيدة التي أولها:

برح اشتياقي وادّكاري ولهيب أنفاس حرار 

ومدامع عبراتها ترفضّ عن نوم مطار 

لله قلب ما يجنّ من الهموم وما يوارى 

لقد انقضى سكر الشباب وما انقضى وصب الخمار 


عندما مدحه بها، تأخرت صلة الشاعر فشفع هذه القصيدة بأخرى، وأتبعها برقعة، فلم يزده ابن العميد إلا الإهمال، مع رقة حاله التي ورد عليها إلى بابه، فتوسل إلى أن دخل عليه المجلس وهو حافل بأعيان الدولة، ومقدمي أصحاب الديوان ووقف بين يديه، وأشار إليه بيده وقال أيها الرئيس: لزمتك لزوم الظلّ، وذللت لك ذلّ النعل، وأكلت النوى المحرق انتظارا لصلتك، والله ما بي من الحرمان ولكن شماتة الأعداء، قوم نصحوني فأغتششتهم، وصدقوني فاتهمتهم، فبأي وجه ألقاهم؟ وبأي حجة أقاومهم ولم أحصل من مديح بعد مديح ومن نثر بعد نظم إلا على ندم مؤلم، ويأس مسقم؟ فإن كان للنجاح علامة، فأين هي؟ وما هي؟ إن الذين تحسدهم على ما مدحوا كانوا من طينتك، وإن الذين هجوا كانوا مثلك، فزاحم بمنكبك أعظمهم سناما، وأنورهم شعاعا، وأشرفهم بقاعا. فحار ابن العميد، وشده، ولم يدر ما يقول. فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: هذا وقت يضيق عن الإطالة منك في الاستزادة، وعن الإطالة منّي في المعذرة، وإذا تواهبنا ما دفعنا إليه استأنفنا ما نتحامد عليه. فقال ابن نباتة: أيها الرئيس هذه نفثة صدر دوي منذ زمان، وفضلة لسان قد خرس منذ دهر، والغني إذا مطل لئيم. فاستشاط ابن العميد وقال: والله ما استوجبت هذا العتب من أحد من خلق الله، ولقد نافرت العميد من دون هذا، حتى دفعنا إلى قري عائم، ولجاج قائم، ولست وليّ نعمتي فأحتملك، ولا صنيعتي فأغضي عنك، وإن بعض ما أوقرته في مسامعي ينقض مرّة الحليم، ويبدد شمل الصبر، هذا وما استقدمتك بكتاب، ولا استدعيتك برسول، ولا سألتك مدحي ولا كلّفتك تقريظي. فقال ابن نباتة: صدقت أيها الرئيس، ما استقدمتني بكتاب، ولا استدعيتني برسول، ولا سألتني مدحك، ولا كلّفتني تقريظك، ولكنّك جلست في صدر ديوانك بأبهّتك وقلت: لا يخاطبني أحد إلا بالرّياسة، ولا ينازعني خلق في أحكام السياسة، فإني كاتب ركن الدولة، وزعيم الأولياء والحضرة، والقيّم بمصالح المملكة، فكأنك دعوتني بلسان الحال ولم تدعني بلسان المقال. فثار ابن العميد مغضبا، وأسرع في صحن داره إلى أن دخل حجرته، وتقوض المجلس، وماج الناس، وسمع ابن نباتة وهو في صحن الدار مارا يقول: والله، إن سفّ التراب، والمشي على الجمر، أهون من هذا، فلعن الله الأدب إذا كان بائعه مهينا له، ومشتريه مماكسا فيه. فلما سكن غيظ ابن العميد، وثاب إليه حلمه، التمسه من الغد ليعتذر إليه، ويزيل أثر ما كان منه، فكأنما غاص في سمع الأرض وبصرها، فكانت حسرة في قلب ابن العميد وأظنّها باقية إلى أن يموت.
----------------------------------------------------


ندانم!! (02:52)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

في هذه السنة ظهر في دار كان يسكنها المقتدر بالله إنسان أعجميٌّ، وعليه ثياب فاخرة، وتحتها ممّا يلي بدنه قميصُ صوف، ومعه مِقْدحة، وكبريت، ومِحْبرة، وأقلام، وسكّين، وكاغد، وفيه كيس سَويق، وسكّر، وحبل طويل من قُنّب، يقال إنّه دخل مع الصُنّاع، فبقي هناك، فعطش، فخرج يطلب الماء فَأُخذ، فأحضروه عند ابن الفرات، فسأله عن حاله، فقال: لا أخبر إلا صاحب الدار، فرفق به، فلم يخبره بشيء، وقال: لا أخبر إلا صاحب الدار، فضربوه ليقرروه، فقال: بسم الله بدأتم بالشر؟ ولزم هذه اللفظة، ثم جعل يقول بالفارسية: ندانم، ومعناه لا أدري، فأمر به فأُحرق. وأنكر ابن الفرات على نصر الحاجب هذه الحال حيث هو الحاجب، وعظّم الأمر بين يدي المقتدر، ونسبه إلى إنه أخفاه لقتل المقتدر، فقال نصر: لِمَ أقتل أمير المؤمنين وقد رفعني من الثرى إلى الثريّا ؟ إنّما يسعى في قتله من صادره، وأخذ أمواله، وأطال حبسه هذه السنين، وأخذ ضياعه؛ وصار لابن الفرات بسبب هذا حديث في معنى نصر.
----------------------------------------------------


متاع ليس له استمتاع! (00:00)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

 جلوسيَ في سوقٍ أبيع وأشتري         دليلٌ على أن الأنـام قـرود   
 ولا خير في قومٍ يُذل كرامهـم          ويُعظم فيهم نذلـهـم ويسـود   
 وتهجوهم عني رثاثةُ ملبسـي          هجاءً قبيحاً ما عليه مـزيد   

الحسن بن عبد الله بن سهل بن مهران، أبو هلال اللغوي العسكري نسبته إلى عسكر مُكرَم من كور الأهواز. كان الغالب عليه الأدب والشعر. بلغني أن هذا الفاضل كان يحضر السوق، ويحمل إليها الوسوق، ويحلب دَرَّ الرزق ويمتري، بأن يبيع الأمتعة ويشتري، فانظر كيف يحدو الكلام ويسوق، وتأمل هل عض من فضله السوق، وكان له في سوقه الفضلاء أسوة، أو كأنه استعار منهم لأشعاره كسوة، وهم: نصر بن أحمد الخبز أرزي، وأبو الفرج الوأواء الشامى، والسَّريّ الرَّفّاء الموصلي. أما نصر فكان يدحو لرفاقه الأرْزِيّة، ويشكو في أشعاره تلك الرزية، وأما أبو الفرج فكان يسعى بالفواكه رائحاً، وغادياً، ويتغنى عليها منادياً، وأما السرىّ فكان يطرى الخَلَق، ويرفو الخِرَق، ويصف تلك العبره، ويزعم أنه يسترزق بالإبرة. وكيف كان فهذه حرفة لا تنجو من حُرفه، وصنعة لا تنجو من صنعة، وبضاعة لا تَسلم من إضاعة، ومتاع ليس له استمتاع! 
----------------------------------------------------


سمل المستكفي (03:39)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

لم يمض على مبايعة الخليفة المستكفي سنة حتى ورد الخبر إليه بوصول معز الدولة ابن بويه من بلاد فارس، فخاف خوفاً شديداً، واضطرب الناس، فأهدى المستكفي إلى معزّ الدولة ألطافاً وفاكهة. ووصل معز الدولة إلى حضرة المستكفي فرد إليه إمارة الأمراء وأعطاه الطوق والسوار وآلة السلطنة وعقد له لواء. وهو أول ملوك بني بويه في الحضرة الخليفية، وهو الذي لقّبه معزّ الدولة، ولقّب أخاه الآخر عماد الدولة، وأمر أن تضرب ألقابهم على الدينار والدرهم. ونزلت الديلم دور الناس ببغداد ولم يكن يعرف ذلك من قبل. ثم إن معز الدولة ركب يوماً إلى دار الخلافة وسلم على المستكفي وقبل الأرض بين يديه وأمر المستكفي فطرح كرسي فجلس عليه معز الدولة ثم تقدم إلى المستكفي رجلان من الديلم بمواطئة معز الدولة فمدا أيديهما نحوه فظن المستكفي أنهما يريدان تقبيل يده فمد يده فجذباها ونكساه من السرير ووضعا عمامته في عنقه وسحباه ونهض معز الدولة وضربت البوقات والطبول واختلط الناس ودخل الديلم إلى حرم الخليفة وحمل المستكفي إلى دار معز الدولة فاعتقل بها وخلع من الخلافة ونهبت داره وسملت عيناه. ولم يزل في دار السلطنة معتقلاً فيها إلى الساعة. فقلت في ذلك: 

وَاِحتِمالُ الأَذى وَرُؤيَةُ جاني  هِ        غِذاءٌ تَضوى بِهِ الأَجسامُ 

ذَلَّ مَن يَغبِطُ الذَليلَ بِعَيشٍ          رُبَّ عَيشٍ أَخَفُّ مِنهُ الحِمامُ 

كُلُّ حِلمٍ أَتى بِغَيرِ اِقتِدارٍ           حُجَّةٌ لاجِئٌ إِلَيها اللِئامُ 

مَن يَهُن يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ          ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ
----------------------------------------------------


الحمّى (03:54)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

نالتني بمصر حمى، كانت تغشاني إذا أقبل الليل، وتنصرف عني إذا أقبل النهار بعرق، فقلت أصف الحمى وأذمّ الأسود، وأعرّض بالرحيل، فشغف الناس بها في مصر، وأنشدوها الأسود فساءته. قلت: 

ملومكما يجلّ عن الملام          ووقع فعاله فوق الكلام 

ذراني والفلاة بـلا دلـيلٍ           ووجهي والهجير بلا لثام  

فإني أستريح بذا وهـذا           وأتعب بالإناخة والمقام  

ومنها: 

ولا أمسى لأهل البخل ضيفاً           وليس قرىً سوى مخّ النّعام  

ولمّا صار ودّ النّاس خبّـاً          جزيت على ابتسامٍ بابتسام  

وصرت أشكّ فيمن أصطفيه          لعلمي أنّه بعـض الأنـام  

ولم أر في عيوب النّاس عيباً          كنقص القادرين على التّمام  

أقمت بأرض مصر فلا ورائي          تخبّ بي الرّكاب ولا أمامي  

ثم كان وصف الحمّى الذي ذاع في الآفاق: 

وزائرتي كأنّ بهـا حـياءً        فليس تزور إلاّ بالظّلام  

بذلت لها المطارف والحشايا          فعافتها، وباتت في عظامي  

إذا ما فارقتني غسّلتنـي         كأنّا عاكفان على حرام  

كأنّ الصّبح يطردها فتجري          مدامعها بأربعةٍ سـجـام  

أبنت الدّهر عنـدي كـلّ بـنـتٍ        فكيف وصلت أنت من الزّحام ؟!  

إلى أن بلغت قولي: 

يقول لي الطّبيب: أكلت شيئاً         وداؤك في شرابك والطّعام  

وما في طبّه أنّـى جـوادٌ         أضرّ بجسمه طول الجمام  

تعوّد أن يغبّر في السّرايا          ويدخل من قتامٍ في قتام  

فأمسك لا يطال له فـيرعـى           ولا هو في العليق ولا اللّجام  

ما أن انتهت هذه الأبيات إلى مسامع الأسود حتى أدرك بأنني مفارقه، فأمر برقابتي رقابة صارمة.
----------------------------------------------------


بين يدي الحسن بن طغج (05:12)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

كثرت عليّ مراسلات الأمير أبي محمد الحسن بن عبد الله بن طغج من الرملة فسرت إليه، فلما حللت عليه، حمل إليّ وأكرمني. وكان أن أرسل إليّ محمد بن القاسم المعروف بالصوفي، وأبو عمر السلمي بحضرتي، أرسله على مركوب فصعد إلي في دار كنت أنزلها فسلم علي وعرّفني رسالة الأمير، وأنه منتظر لي. فامتنعت عليه وقلت أعلم أنه يطلب شعراً، وما قلت شيئاً فقال لي ما نفترق. فقلت له اقعد إذاً. ثم دخلت إلى بيت في الحجرة ورددت الباب علي فلبثت فيه مقدار كتب القصيدة ثم خرجت إليه وهي في يدي مكتوبة لم تجف. فقال لي أنشدنيها فامتنعت وقلت الساعة تسمعها. ثم ركبت وسرنا فدخلت على الأمير أبي محمد وعين الأمير إلى الباب ممدودة منتظراً لورودنا. فسأل عن خبر الإبطاء فأخبره الخبر. فسلمت عليه ورفعني أرفع مجلس وأنشدته هذه القصيدة.:

أَنا لائِمي إِن كُنتَ وَقتَ اللَوائِمِ         عَلِمتَ بِما بي بَينَ تِلكَ المَعالِمِ  

وَلَكِنَّني مِمّا شُدِهتُ مُتَيَّمٌ         كَسالٍ وَقَلبي بائِحٌ مِثلُ كاتِمِ  

وَقَفنا كَأَنّا كُلُّ وَجدِ قُلوبِنا        تَمَكَّنَ مِن أَذوادِنا في القَوائِمِ  

وَدُسنا بِأَخفافِ المَطِيِّ تُرابَها        فَلا زِلتُ أَستَشفي بِلَثمِ المَناسِمِ  

دِيارُ اللَواتي دارُهُنَّ عَزيزَةٌ         بِطولِ القَنا يُحفَظنَ لا بِالتَمائِمِ  

حِسانُ التَثَنّي يَنقُشُ الوَشيُ مِثلَهُ        إِذا مِسنَ في أَجسامِهِنَّ النَواعِمِ  

وَيَبسِمنَ عَن دُرٍّ تَقَلَّدنَ مِثلَهُ        كَأَنَّ التَراقي وُشِّحَت بِالمَباسِمِ  

فَمالي وَلِلدُنيا طِلابي نُجومُها       وَمَسعايَ مِنها في شُدوقِ الأَراقِمِ  

إلى أن بلغْت: 

وَذي لَجَبٍ لاذو الجَناحِ أَمامَهُ        بِناجٍ وَلا الوَحشُ المُثارُ بِسالِمِ  

تَمُرُّ عَلَيهِ الشَمسُ وَهيَ ضَعيفَةٌ        تُطالِعُهُ مِن بَينِ ريشِ القَشاعِمِ  

إِذا ضَوؤُها لاقى مِنَ الطَيرِ فُرجَةً         تَدَوَّرَ فَوقَ البَيضِ مِثلَ الدَراهِمِ  

ومنها في الممدوح: 

حَيِيّونَ إِلّا أَنَّهُم في نِزالِهِم       أَقَلُّ حَياءً مِن شِفارِ الصَوارِمِ 

وَلَولا اِحتِقارُ الأُسدِ شَبَّهتُها بِهِم        وَلَكِنَّها مَعدودَةٌ في البَهائِمِ 
 
سَرى النَومُ عَنّي في سُرايَ إِلى الَّذي        صَنائِعُهُ تَسري إِلى كُلِّ نائِمِ 

ومنها البيت الذي سلقت به بدر بن عمار أمير طبرية وابن كروسه:

وَفارَقتُ شَرَّ الأَرضِ أَهلاً وَتُربَةً        بِها عَلَوِيٌّ جَدُّهُ غَيرُ هاشِمِ 

بَلى اللَهُ حُسّادَ الأَميرِ بِحِلمِهِ         وَأَجلَسَهُ مِنهُم مَكانَ العَمائِمِ 

فَإِنَّ لَهُم في سُرعَةِ المَوتِ راحَةً         وَإِنَّ لَهُم في العَيشِ حَزَّ الغَلاصِمِ 

كَأَنَّكَ ما جاوَدتَ مَن بانَ جودُهُ          عَلَيكَ وَلا قاتَلتَ مَن لَم تُقاوِمِ
----------------------------------------------------


حامل كفنه (04:16)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

أخبرت أن حامل الكفنه محمد بن يحيى بن محمد أبا سعيد البغدادي قال: كان بالرميلة رجل يقال له عمار، وكانوا يقولون أنه منح الأبدال، فاشتكى البطن، فذهبت أعوده، وقد بلغني عنه رؤيا رآها؛ فقلت له: رؤيا حكوها عنك؛ فقال لي نعم، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقلت: يا رسول الله ادع الله لي بالمغفرة؛ فدعا لي، ثم رأيت الخضر بعد ذلك فقلت: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله وليس بمخلوق فقلت: فما تقول في النبيذ؟ قال: انه عنه الناس؛ فقلت: هو ذا أنهاهم وليس ينتهون؛ فقال: من قبل منك يقبل ومن لم يقبل فدعه؛ فقلت: ما تقول في بشر بن الحارث ؟ قال: مات بشر بن الحارث يوم مات وما على ظهر الأرض أحدٌ أتقى لله منه؛ قلت: فأحمد بن حنبل ؟ فقال لي: صدّيق؛ قلت له: فحسين الكرابيسي ؟ فأغلظ في أمره؛ فقلت: فما تقول في خالتي؟ فقال لي: تمرض وتعيش سبعة أيام ثم تموت؛ فلما أن ماتت قلت: حقت الرؤيا؛ فلما رأيته بعد ذلك قلت له: كيف صار مثلك يجيء إلى مثلي؟ فقال لي: ببرك والديك وإقالتك العثرات. وكان هذا المعروف بحامل كفنه توفي، وغسل، وكفن، وصلي عليه، ودفن؛ فلما كان في الليل جاءه نباش فنبش عنه، فلما حل أكفانه ليأخذها استوى قاعداً، فخرج النباش هارباً منه، فقام وحمل أكفانه وخرج من القبر، وجاء إلى منزله؛ وأهله يبكون، فدق الباب عليهم، فقالوا: من أنت؟ فقال: أنا فلان فقالوا له: يا هذا لا يحل لك أن تزيدنا على ما بنا؛ فقال: يا قوم افتحوا فأنا والله فلان؛ فعرفوا صوته، ففتحوا له الباب، وعاد حزنهم فرحاً، وسمي من يومئذٍ حامل كفنه. توفي في سنة تسعٍ وتسعين ومئتين.
----------------------------------------------------


حكاية البطّيخات الخمس (04:58)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

وَأَتعَبُ خَلقِ اللَهِ مَن زادَ هَمُّهُ                    وَقَصَّرَ عَمّا تَشتَهي النَفسُ وُجدُهُ 

فَلا يَنحَلِل في المَجدِ مالُكَ كُلُّهُ                    فَيَنحَلَّ مَجدٌ كانَ بِالمالِ عَقدُهُ 

وَدَبِّرهُ تَدبيرَ الَّذي المَجدُ كَفُّهُ                       إِذا حارَبَ الأَعداءَ وَالمالُ زَندُهُ 

فَلا مَجدَ في الدُنيا لِمَن قَلَّ مالُهُ                       وَلا مالَ في الدُنيا لِمَن قَلَّ مَجدُهُ 

سأعترف لهذه الكرّاسات باعتراف، لعلّك تسأل ما أمر هذه الأبيات؟ ولم الوصية بالحزم، وضبط الأموال، سأسوق إليك حادثة وقعت في صباي ما زالت ماثلة في خاطري:
أذكر وقد وردت في صباي من الكوفة إلى بغداد، فأخذت خمسة دراهم في جانب منديلي، وخرجت أمشي في أسواق بغداد، فمررت بصاحب دكان يبيع الفاكهة، فرأيت عنده خمسا من البطيخ باكورة، فاستحسنتها ونويت أن أشتريها بالدراهم التي معي، فتقدمت إليه وقلت: بكم تبيع هذه الخمس بطاطيخ، فقال بغير اكتراث: إذهب، فليس هذا من أكلك، فتماسكت معه وقلت: أيها الرجل دع ما يغيظ واقصد الثمن، فقال: ثمنها عشرة دراهم. فلشدّة ما جبهني به، ما استطعت أن أخاطبه في المساومة، فوقفت حائراً؛ ودفعت له خمسة دراهم، فلم يقبل، وإذا بشيخ من التجّار قد خرج من الخان، ذاهباً إلى داره، فوثب إليه صاحب البطيخ من دكانه، ودعا له، وقال له: يا مولاي، هذا بطيخ باكور، بإجازتك أحمله إلى منزلك. فقال الشيخ: ويحك بكم هذا؟ قال: بخمسة دراهم. فقال: بل درهمين. فباعه الخمسة بدرهمين، وحملها إلى داره، ودعا له، وعاد إلى دكانه مسروراً بما فعل، فقلت له: يا هذا، ما رأيت أعجب من جهلك، استمتّ عليّ في هذا البطيخ، وفعلت فعلتك التي فعلت، وكنت قد أعطيتك في ثمنه خمسة دراهم، فبعته بدرهمين محمولا. فقال: اسكت، هذا يملك مائة ألف دينار. فعلمت أن الناس لا يكرمون أحداً إكرامهم من يعتقدون أنه يملك مائة ألف دينار، وأنا ما زلت أضرب في الأرض حتى أسمع الناس يقولون: إن أبا الطيب قد ملك مائة ألف دينار.
----------------------------------------------------


خليفة ليوم وليلة (03:16)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

أنشد ابن المعتز ذات يوم: 

ألم تر أن الدهر يومٌ وليلةٌ          يكّران من سبت عليك إلى سبت 

فقل لجديد العيش لابدّ من بلىً           وقل لاجتماع الشمل لابدّ من شتّ 

أشعر بني العباس عبد الله بن المعتز بن االمتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد ؛ أخذ الأدب عن أبي العباس المبرد وأبي العباس ثعلب وغيرهما، كان أديباً بليغاً شاعراً مطبوعاً مقتدراً على الشعر مخالطاً للعلماء والأدباء معدوداً من جملتهم، إلى أن جرت له الكائنة في خلافة المقتدر، واتفق معه جماعة من رؤساء الأجناد ووجوه الكتّاب فخلعوا المقتدر يوم السبت لعشر بقين، وقيل لسبعٍ بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين، وبايعوا عبد الله المذكور ولقبّوه المرتضي بالله، وقيل غير ذلك من لقب، فأقام يوماً وليلة، ثمّ إن أصحاب المقتدر تحزّبوا وتراجعوا وحاربوا أعوان ابن المعتزّ وشتتّوهم، وأعادوا المقتدر إلى دسته، واستخفى ابن المعتز في دار أبي عبد الله ابن الجصاص التاجر الجوهري، فأخذه المقتدر وسلمه إلى مؤنس الخادم الخازن فقتله خنقا وسلمه إلى أهله ملفوفاً في كساء، وذلك يوم الخميس ثاني شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين، ودفن في خرابة بإزاء داره، رحمه الله تعالى.
----------------------------------------------------


رجال في صناديق (03:22)

تأليف: الشاعر محمد أحمد خليفة السويدي

وفي هذه السنة قتل بجكم، وكان قد أرسل جيشاً إِلى قتال أبي عبد الله البريدي. ثم سار من واسط في أثرهم، فأتاه الخبر بنصرة عسكره، وهرب البريدي. فقصد بجكم الرجوع إِلى واسط، وبقي يتصّيد في طريقه حتى بلغ نهر جور، فسمع أن هناك أكراداً لهم مال وثروة، فشرهت عينه، وقصدهم في جماعة قليلة، وأوقع بهم، فهربوا من بين يديه ، وجاء صبي من الأكراد من خلفه، وطعنه برمح فيِ خاصرته ولا يعرفه، فمات بجكم من تلك الطعنة. ولما بلغ قتله المتّقي، استولى على دار بجكم وأخذ منها أموالاً عظيمة، و أكثرها كانت مدفونة، وأتى البريدي الفرج بقتله من حيث لا يحتسب. وكانت مدة إِمارة بجكم سنتين وثمانية أشهر وأياماً. وكانت أمواله كثيرة، فكان يدفنها في داره وفي الصحاري وكان يأخذ رجالاً في صناديق فيها مال إلى الصحراء ثم يفتح عليهم فيعاونونه على دفن المال ثم يعيدهم في الصناديق ولا يدرون إلى أي موضع حملهم فضاعت أمواله بموته. وهو أمير الأمراء ببغداد، قبل بني بويه. كان يفهم العربية ولا يتكلم بها. يقول: أخاف أن أخطئ والخطأ من الرئيس قبيح. وكان ندماء الراضي قد التّفوا على بجكم وهو بواسط، وكان قد ضمنها بثمانمائة ألف دينار من الخليفة، وكانوا يسامرونه كالخليفة، وكان لا يفهم أكثر ما يقولون.
----------------------------------------------------